هدنة غزة- قانون وإنسانية في مهب الصراع وإرادة ترامب الحاسمة

المؤلف: د. محمود الحنفي09.23.2025
هدنة غزة- قانون وإنسانية في مهب الصراع وإرادة ترامب الحاسمة

إن الهدنة في غزة تعتبر إجراءً منتظرًا على الصعيدين القانوني والإنساني، إلا أن الطريق نحو تحقيقها كان محفوفًا بالصعاب. فبينما تباطأت إدارة الرئيس جو بايدن في ممارسة الضغوط الضرورية على إسرائيل لوقف التصعيد، اتخذ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موقفًا مغايرًا تمامًا، حيث فرض الهدنة بحزم وسرعة.

في تحول ملحوظ، دفعت إدارته نحو التهدئة، حتى أن أحد مبعوثيها ألزم الجانب الإسرائيلي بالعمل يوم السبت، وهو ما يعتبر مخالفة للعادات الإسرائيلية المعهودة، مما يظهر أن الإرادة الأميركية، إذا ما توفرت، قادرة على إنهاء المعاناة الإنسانية للفلسطينيين.

وقد جاء هذا التحرك بعد رفض إسرائيل لعروض هدنة سابقة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، حيث تجاوزت الخسائر البشرية والمادية كل التوقعات، مخلفة وراءها عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، ودمارًا واسعًا في البنية التحتية.

في هذا المقال، سنستعرض التعريف القانوني للهدنة، ونناقش تأثير هذه الخطوة على الوضع الإنساني المتردي في غزة، بالإضافة إلى آليات ضمان استمرارها من قبل الأطراف الدولية الفاعلة. كما سنطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة هذه الهدنة على الصمود في وجه التحديات، وما إذا كانت تمثل تغييرًا جذريًا في التعامل مع الصراع الدائر أم مجرد استراحة مؤقتة في ظل معاناة إنسانية مستمرة في التفاقم.

تعريف الهدنة قانونيًا

الهدنة، في الاصطلاح القانوني الدولي، تُعرف بأنها اتفاق بين الأطراف المتنازعة لوقف العمليات العسكرية بصورة مؤقتة. واستنادًا إلى اتفاقيات جنيف، وبالأخص البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، الذي يهدف إلى توسيع نطاق الحماية للضحايا في النزاعات المسلحة الدولية، تعتبر الهدنة توقفًا فعليًا للقتال لفترة زمنية محددة ومتفق عليها بين الأطراف المتقاتلة، وذلك لإتاحة الفرصة لإجلاء الجرحى والمرضى، وتبادل الأسرى، وتقديم الإغاثة والمساعدات الإنسانية.

كما تنص المادة 15 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 بوضوح على أن أي اتفاق هدنة يجب أن يتضمن تدابير فعالة لحماية الجرحى والمرضى، وتأمين المساعدة الإنسانية الضرورية لهم، مما يجعل الالتزام بالهدنة واجبًا قانونيًا بموجب القانون الدولي الإنساني.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتفاق لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية الحرب، بل هو مجرد تعليق مؤقت للعمليات القتالية، وقد يتضمن أيضًا ترتيبات لإعادة الأسرى إلى أوطانهم أو استئناف المفاوضات السلمية. يعتبر تنفيذ الهدنة جزءًا لا يتجزأ من القانون الإنساني الدولي، حيث تحدد الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الملحقة بها الإجراءات التي يجب على الأطراف اتباعها لتجنب أية انتهاكات لحقوق الإنسان.

الظروف الواقعية والقانونية لغزة تحت الاحتلال

يمتاز قطاع غزة بمساحته المحدودة وكثافته السكانية العالية، وهو محاط بإسرائيل ومصر، ويعاني من حصار مستمر منذ سنوات طويلة. من الناحية القانونية، يعتبر الوضع في غزة بالغ التعقيد؛ نظرًا لتأثير الاحتلال الإسرائيلي المتواصل منذ عام 1967، على الرغم من الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في عام 2005.

إذ أن الحصار والسيطرة الإسرائيلية على الحدود البحرية والجوية والبرية تعني أن غزة لا تزال خاضعة للسيطرة الإسرائيلية بموجب القانون الدولي، باعتبارها منطقة محتلة. ووفقًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، يحظر على الدولة المحتلة القيام بأية أعمال تؤدي إلى تغييرات دائمة في الأراضي المحتلة، إلا إذا كانت هذه الأعمال تقتضيها ضرورة عسكرية ملحة أو تستهدف تحسين أحوال السكان المحليين.

وتعاني الظروف الاقتصادية والإنسانية في غزة من تدهور مستمر نتيجة للحصار المفروض، مما يحد بشكل كبير من إمكانية الوصول إلى الموارد والخدمات الأساسية. ويمتد تأثير الحصار ليشمل تدهور البنية التحتية الحيوية، مثل؛ الطاقة، والمياه، والرعاية الصحية، مما يجعل الحياة اليومية في غزة ضربًا من المعاناة لا يطاق.

وبموجب القانون الإنساني الدولي، تقع على عاتق قوة الاحتلال مسؤولية توفير الضروريات الأساسية للسكان المدنيين المحاصرين. وتنص المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة على التزام القوة المحتلة بضمان توفير الغذاء والماء والرعاية الصحية، واحترام حقوق المدنيين وكرامتهم الإنسانية.

وفي ضوء هذه الالتزامات القانونية، فإن استمرار الحصار والعمليات العسكرية المتكررة يثير تساؤلات عميقة حول مدى التزام إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، بمسؤولياتها القانونية والإنسانية، وهو ما تسعى منظمات حقوق الإنسان جاهدة إلى تقييمه ومراقبته باستمرار.

في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2023، صرح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بموقفه الصريح بأن عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لم تأتِ من فراغ، مشيرًا بوضوح إلى أن هذه العملية ليست منعزلة عن السياق السياسي والإنساني المعقد الذي تعيشه غزة والضفة الغربية والقدس، ما يعني أن الاحتلال هو السبب الجذري لكل هذه الكوارث الإنسانية، بما فيها رد فعل الاحتلال المفرط وغير المتناسب على عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، والآثار الإنسانية الكارثية التي نشهدها بعد مرور أكثر من 467 يومًا من الحرب المدمرة على غزة.

هذا الوضع المأساوي أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق، حيث تشهد غزة كارثة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مما يجعل التدخل الدولي العاجل وضرورة وقف الحرب أمرًا ملحًا وأكثر أهمية من أي وقت مضى.

وكما أن مصداقية العالم المتحضر ومقاصد الأمم المتحدة باتت على المحك، فقد أصبحت الهدنة مطلبًا حضاريًا وإنسانيًا أكثر منها مطلبًا سياسيًا أو إستراتيجيًا. فالهدنة الآن ليست مجرد وقف لإطلاق النار، بل هي استجابة لنداءات الإنسانية الملحة، واختبار حقيقي للقيم الحضارية النبيلة التي يدعي العالم التمسك بها.

كيف جرى التوصل لوقف إطلاق النار الآن؟

إن التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة تطلب مفاوضات معقدة ومكثفة بين الأطراف المتحاربة، حيث تكون هناك حاجة ماسة لوساطة دولية محايدة لتسهيل التوصل إلى اتفاق. والوقف الذي تم التوصل إليه في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2023 بين إسرائيل وحركة حماس بوساطة قطرية ومصرية، يُعد مثالًا واضحًا على ذلك، حيث شمل تبادل الأسرى والمحتجزين، وإدخال كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى غزة، معتمدًا بشكل أساسي على توافق الأطراف على شروط محددة وضمانات صارمة لتنفيذ الهدنة.

وتتضمن هذه الضمانات تحديد فترة زمنية واضحة للهدنة، ومراقبة دولية صارمة باستخدام تكنولوجيا متقدمة مثل الأقمار الصناعية وكاميرات المراقبة؛ لضمان عدم وقوع أية انتهاكات أو خروقات. هذا الوقف أصبح ممكنًا بعد أن كان عسيرًا وصعب المنال في الماضي؛ بسبب عدة عوامل مجتمعة، منها زيادة الضغط الدولي الهائل بسبب الأزمة الإنسانية المتفاقمة، والتدهور المريع للوضع الإنساني في غزة، وتغيير ملحوظ في الإرادة السياسية لدى بعض الأطراف، بالإضافة إلى التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة.

كما لعب التهديد الصريح الذي أطلقه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، بتحويل المنطقة إلى "جحيم" إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في أقرب وقت ممكن، دورًا كبيرًا في دفع الأطراف المتنازعة نحو الهدنة، مما جعل من الوقف الحالي أمرًا ضروريًا ومقبولًا من جميع الأطراف المعنية.

القيمة القانونية لإيداع اتفاق الهدنة لدى الأمم المتحدة

يمكن للأطراف المتفقة على هدنة، بما فيها حركة حماس كحركة تحرر وطني بموجب تقييم القانون الدولي، أن تودع الوثائق ذات الصلة لدى الأمم المتحدة، مما يمنحها طابعًا دوليًا رسميًا ويكسبها قوة قانونية إضافية. ووفقًا للمادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة، يتعين تسجيل أي اتفاق دولي يتم إبرامه بين الدول الأعضاء لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، وبمجرد تسجيله، يصبح الاتفاق جزءًا من السجل الدولي الذي يمكن الرجوع إليه قانونيًا في حالة حدوث نزاعات أو انتهاكات.

وخير مثال على ذلك، قرار مجلس الأمن رقم 1701 الصادر في عام 2006، الذي أعقب الحرب المدمرة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، حيث تم إيداعه لدى الأمم المتحدة، مما أدى إلى إنشاء قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (UNIFIL) بهدف مراقبة التزام الأطراف بالهدنة والانسحاب الإسرائيلي الكامل من جنوب لبنان، واستمرار الهدنة حتى شهر سبتمبر/ أيلول من عام 2024.

إن إيداع الاتفاق لدى الأمم المتحدة يضمن الشفافية ويزيد من الزخم الدولي لدعمه، حيث يصبح خاضعًا للإجراءات القانونية التي تنظم العلاقات بين الدول. بالإضافة إلى ذلك، يعزز الإيداع من إمكانية مراقبة الالتزام ببنود الاتفاق عبر الأمم المتحدة، ما يمنح الأطراف الضامنة والوسطاء الدوليين أدوات قوية لضمان التنفيذ الفعال للاتفاق.

وفي حالة حركة حماس، يمكن أن يساعد هذا الإطار القانوني في تعزيز الالتزام بالهدنة وحماية حقوق المدنيين الأبرياء، معتمدًا بشكل كامل على الالتزام الصارم بمبادئ القانون الإنساني الدولي، كما حدث في محاولات الوحدة الفلسطينية المتعثرة بعد انتخابات عام 2006.

ومن الناحية العملية، فإن إيداع الاتفاق يمنح الأمم المتحدة الحق الكامل في متابعة تنفيذ الاتفاق وإعداد تقارير دورية حول مدى الالتزام ببنوده. كما يمكن أن تستخدم الأمم المتحدة هذا الإطار القانوني للضغط على الأطراف للالتزام من خلال اللجان المتخصصة أو من خلال قرارات مجلس الأمن الملزمة، مما يجعل الاتفاق أكثر استقرارًا وفاعلية.

ومع ذلك، فإن نجاح هذا الإجراء يعتمد على عدة عوامل حاسمة، منها إرادة الأطراف المتنازعة الصادقة، وفاعلية الدور الأممي في المراقبة والتفتيش، والتزام المجتمع الدولي بدعم الاتفاق وتوفير الضمانات اللازمة. ليس كل اتفاق يصل إلى هذه المرحلة بسهولة، حيث تتطلب العملية أحيانًا مفاوضات مطولة وتوافقًا شاملاً لضمان القبول الدولي. وفي سياق غزة المعقد، يمكن أن تكون هناك تحديات إضافية؛ بسبب عدم الاعتراف الدولي الكامل بحركة حماس كدولة ذات سيادة، ولكن تسجيل الاتفاقات يمكن أن يكون خطوة مهمة نحو تعزيز التزامها بالمبادئ القانونية الدولية.

إن الوحدة الوطنية الفلسطينية المنشودة، وإنشاء حكومة وحدة وطنية فلسطينية قوية، قد يعالج بشكل فعال مشكلة إيداع الاتفاق لدى الأمم المتحدة، ولكن حتى ذلك الوقت، يمكن لحركات التحرر الوطني أن تودع الاتفاقات من طرف واحد لتعزيز التزامها بالمبادئ القانونية الدولية.

الهدنة في إطار الصراع العربي الإسرائيلي

الهدنة، من الناحية القانونية والسياسية، لا تؤسس بذاتها لوقف إطلاق نار مستدام وطويل الأمد، خصوصًا في سياق الصراع العربي الإسرائيلي المعقد، الذي يتسم بتعقيداته التاريخية والسياسية المتجذرة والمرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية.

تُعد الهدنة إجراءً مؤقتًا يهدف بشكل أساسي إلى وقف الأعمال العدائية وتهيئة بيئة تفاوضية مواتية لمعالجة القضايا الجوهرية العالقة، مثل؛ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وضمان السيادة الفلسطينية الكاملة في إطار حدود الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين المستقلة، واحترام حقوق المدنيين الفلسطينيين بموجب القانون الدولي الإنساني. ورغم أن الهدنة قد تمثل خطوة أولى واعدة نحو تحقيق الاستقرار المنشود، فإن نجاحها يعتمد بشكل كبير على وجود إرادة سياسية قوية لدى جميع الأطراف ودعم دولي حاسم لعملية السلام.

وعلى سبيل المثال، أثبتت التجارب السابقة، كما في حالة اتفاق دايتون الذي أنهى حرب البوسنة والهرسك المأساوية، أن الهدنة قد تكون نقطة انطلاق نحو تحقيق سلام دائم وشامل. ومع ذلك، يواجه الصراع العربي الإسرائيلي تحديات إضافية جمة؛ بسبب تعقيداته المتشعبة والمرتبطة بالحدود المتنازع عليها، والسيادة الوطنية، وقضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى ديارهم.

كما تتيح الهدنة فرصة سانحة لتحليل الأسباب الجذرية للصراع، مثل؛ السيطرة على الموارد الطبيعية، والانتهاكات المستمرة لحقوق الفلسطينيين، وقضية اللاجئين المعلقة منذ عقود، وهو ما يحتاج إلى معالجة شاملة وجدية لضمان إدراجها في أية مفاوضات مستقبلية.

ويبقى دور المجتمع الدولي محوريًا وحاسمًا في ضمان التنفيذ الفعال للهدنة، ومراقبة التزام الأطراف المعنية، لا سيما إسرائيل بصفتها دولة احتلال للقانون الدولي الإنساني والقوانين الدولية ذات الصلة.

وفي هذا السياق، يمكن أن تمثل الهدنة أساسًا متينًا لإجراء محادثات أعمق واستكشاف حلول دائمة لأسباب الصراع المزمن، لكنها تظل مجرد خطوة مبدئية ما لم تصاحبها جهود حقيقية وملموسة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف بما يتماشى مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة